الجمعة، 20 نوفمبر 2015

لحومٌ مسمومةٌ !!


اشتهرت هذه العبارة منذ سنوات بين بعض عوامّ الناس والذين نقلوها عن بعض من يُسمُّون أنفسهم "طلبة العلم الشرعي" ومُفادها أن "لحوم العلماء مسمومة" ومُبتغاها أن لا ينتقد أحدٌ العلماء!

وتجدُ كثيرا ممّن يقدّسون هذه العبارة في الغالب جَهَلةٌ بدين الله عز وجل ويتّبعون ما يُقال لهم دون تفكّر أو تدبّر ودون حتى أن يكلّفوا أنفسهم بأقل تفكير في ما يؤمرون به أصلا!

وتجدُ كثيرا منهم – للأسف الشديد – يهاجمونك ويتّهمونك في دينك وفي أخلاقك بل وحتى في عرضك فتجد التهم المترامية مثل "زنديق" و"ديوث" و"عاهرة" وربما وصلوا إلى التكفير!

وعندما نعود إلى أصل العبارة نجدها أول ما وردت قد وردت في كتاب "تبيين كذب المفتري" المنسوب للحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي الشهير بين الناس باسم "ابن عساكر" وقد وردت هذه العبارة في الكتاب:

"واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة ؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم ، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم ، والارتكاب لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتياب وسبّ الأموات جسيم ، ((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم))"

هذه العبارة التي استند إليها الكثيرون وكأنها نصٌّ نبويٌّ شريف أو آية من كتاب الله عز وجل وهي ليست كذلك أبدا ولكنها قولٌ واجتهادٌ من رجلٍ دافع عن العلماء بما هم أهله وفيها نهيٌ واضح عن الانتقاص من العلماء الأجلاّء والافتراء عليهم بالزور واغتيابهم وسبّهم.

ولكن هذا بالتأكيد ليس خاصا للعلماء فقط فديننا الحنيف ينهانا عن سبّ وشتم كل الناس على حدٍّ سواء، وسواء كان هذا الشخص عالما أو من عامّة الناس، وسواء أكان مسلما أو كان كافر ذمّيا مسالما فالله سبحانه وتعالى ينهانا في كتابه الكريم عن سبّ آلهة المشركين فيقول عز وجلّ في مُحكم تنزيله في سورة الأنعام: ((ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبّئهم بما كانوا يعملون)) فإذا كان الله عز وجل ينهى المسلم عن سبّ آلهة الكفار والتي هي بالنسبة لنا هي الضلال المبين فمن باب أولى أن سبّ المسلم أشدّ وطأة وأعظم جرما عند الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم قال ذامّا من ينتهج هذا النهج السيئ: ((إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن ، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) 

وقال عليه الصلاة والسلام: ((ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء))

وقال عليه الصلاة والسلام: ((ملعونٌ من سبَّ والديه " قالوا: يا رسول الله وكيف يسبُّ الرجل والديه؟ قال : " يسبُّ أبا الرجل فيسبُّ أباه ، ويسبُّ أمه فيسبُّ أمه))

فهذه العبارة في الكتاب كانت تبيينا لأهمية العلماء للدين كأشخاص – وهذا ما لا ينكره أيُّ مسلم عاقل على الإطلاق – وللدفاع عنهم أمام من يفتري عليهم ويرميهم بما ليس فيهم ولكن لم يكن أبدا مقصود العبارة عدم انتقاد العلماء على الإطلاق، فالانتقاد لا يعني بتاتا السب أو الشتم، بل إذا كان أحدهم مخطئا في رأي أو اعتقاد أو حتى في كيفية تفسير أو استنباط الدليل – ومَنْ مِنّا معشر البشر يدّعي أنه لا يخطئ – فيكون انتقاده بأدب واحترام ودون تشكيكٍ في نزاهة العالِم ودون التشكيك في حرصه على استنتاج الحكم الشرعي لفائدة المسلمين.

ولكنّ العجيب أن هذه العبارة أصبحت فجأة سلاحا لكل من لا يعجبه الرأي الجديد والاستنتاج المغاير لما ألِفهُ البعضُ والمنافي لما كان عليه آباؤهم وأجدادهم فتجدهم يُحاصرون كل من يأتي بفكر جديد واستنتاج حديث وكأنّه لا يُمكن تجديد الرأي وتغييره بين العلماء وكأنّ أقوال العلماء السابقين كلام الله المنزّل بلا أيّ شبهة ولا أي خطأ.

إن الزمان يمضي والعقول تتطور وترى ما كان قد يخفى على من سبقها بل وإنّ الإنسان نفسه قد يغيّر رأيه إذا ما رأى الصواب أو إذا ما رأى شيئا كان قد خفي عليه فيما قد مضى والإمام الشافعي رحمه الله غيّر الكثير من آرائه بين فترة مكوثه في العراق وفترة مكوثه في مصر حتى أنه أعاد كتابة جزء كبير من كتابه الأشهر "الأم" وهو أساس المذهب الشافعي والإمام الشافعي نفسه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط!

والإمام مالكٌ رحمه الله تعالى قال وهو في المسجد النبوي: كلٌّ يؤخذُ منه ويُرَدُّ إلا صاحب هذا القبر! (وأشار إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم)

والإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى قال قولا قريبا من ذلك: حرامٌ على من لم يعرف دليلي أن يُفتي بكلامي، فإننا بشرٌ نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا.

وبنفس المبدأ سار الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فقال ينصح أحد تلاميذه: لا تقلّدني ، ولا تقلد مالكا ، ولا الشافعي ، ولا الأوزاعي ، ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا!

وقال أيضا رحمه الله: عجبتُ لقوم عرفوا الإسناد وصحّته ويذهبون لرأي سفيان!

وهذا ليس انتقادا منه لسفيان الثوري رحمه الله وليس تقليلا من علمه بقدْر ما هو انتقادٌ لمن يأخذ بأقوال الآخرين دون أن يعرف أو يفهم سبب القول أو دليله أو حُجّته.

وغير ذلك كثيرٌ من أقوال أئمة السلف في النهي عن الأخذ العمياني من الآراء ووجوب التنقيب والتأكد من صحّة الرأي وكلهم يشيرون إلى أنهم أنفسهم بشرٌ يصيبون ويخطئون ومعرضون للخطأ ومعرضون للاجتهاد الخاطئ وقد يغيب عنهم الحديث أو يكون الحديث لم يصل إليهم وبالتالي يكون حكمهم قد استند إلى قاعدة خاطئة ولذلك فقد نصحوا ووجّهوا المسلمين بأن يكونوا أكثر إدراكا وأكثر فهما وتقبّلا للتغيير لأنهم هم أنفسهم غيّروا آراءهم عندما تبيّن لهم الحق المبين ورجعوا عنه دون تردد ولم يقل أحد فيهم: أنا العالم فلان ولا أحد مثلي وأنا لا أخطئ! وحاشاهم أن يقولوا فلقد كانوا من صفوة علماء المسلمين.

وعلى النقيض فتجد في يومنا هذا من يدافع دفاعا مستميتا عن هذا الشيخ وذلك العالم – وإن كانوا على خطأ - وهم لم يصلوا في عِلمهم إلى نصف ما وصل إليه أئمة المذاهب الأربعة وتجدهم يبررون لهم أخطاءهم ويشنّون الحروب الشعواء على من ينتقدهم ويرمونهم بالزندقة وعداوة الدين وما إلى ذلك من تهم جديدة كالليبرالية والعلمانية وغيرها فتجد بعضا من هؤلاء المنافحين انطبق عليهم قول الله عز وجل: ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)) 

فالله سبحانه وتعالى شبّه من يتّبع العالم في كل شيء وإن أخطأ وسواء كان هذا الخطأ ناتجا عن حُسْن نيّة باستناد إلى دليل منسوخ أو ضعيف أو استنتاج خاطئ أو فهم قاصر أو كان هذا الخطأ بسوء نيّة من شخص ما يريد أن يمرر آراءه وإجبار الناس عليها أو استغلال موقعه لينصب على عامّة الناس بمن يتخذهم آلهة من دون الله عز وجل وهو إثم عظيم بلا شك أن تعتقد أن إنسان لا يخطئ أو لا يذهب وأيٌّ منا المعصوم من الزلل والخطأ؟

إن انتقاد آراء العُلماء – حتى وإن كان ممّن يُعتبرون من عوامّ الناس – هو من أساسيات الإسلام التي لا استغناء عنها فلا رهبانية في الإسلام والمصطفى صلى الله عليه وسلم رُوي عنه أنه قال: ((إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة))

إن الله عز وجل لم يختصّ هذا الدين لأناس معيّنين يأمرون الناس بما يريدون وينهونهم عمّا يريدون ولم يمنح الله عز وجل لأحد حقا بتوزيع صكوك الغفران كما أنه عز وجل خلق الإنسان ضعيفا غير كامل يعتريه النقص والزلل والسهو والخطأ.

إن أفضل رجل بعد رسول الله عز وجل وأبي بكر الصدّيق هو الفاروق عمر بن الخطاب وهو الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيته التي رآها بالعبقري الذي لم يرَ أحدهم يفري فرْيه وهذا عمر بن الخطاب خليفةُ خليفةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين وثاني المبشرين بالجنة ورفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دنياه وأخراه وحتى في مدفنه يقف وهو أمير المؤمنين وقائدهم فيُصدر أمرا وقانونا بتحديد المهور فتقوم امرأة من خلف الرجال فتعارض الأمر علنا وتستشهد بقول الله عز وجل ((وآتيتم إحداهنّ قنطارا)) فلم يعترض عمر رضي الله عنه ويقول أنا أمير المؤمنين أفعل ما أشاء ولم يقل أن هذا لمصلحة الناس – وللخليفة أن يحدد المباحات إذا اقتضت المصلحة ذلك – ولكنه رضي الله عنه قال بكل بساطة: (أخطأ عمر وأصابت امرأة) وفوق هذا كله لم يقم أحد من الصحابة الحاضرين في المسجد ليقول للمرأة: اجلسي فمن أنتِ لتعارضي أمير المؤمنين!

إن هذا هو الخلق الذي تربى عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أخذ الحق ممّن كان مادام هو الحق وعدم الوقوف مع الخليفة أو العالم أو القاضي أو أيا من كان منصبه فقط بسبب منصبه أو جاهه أو علمه بل العكس فقد جاء نهي الإسلام عن هذا بالكلية والرسول صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين بنصر إخوانهم المسلمين ظالمين أو مظلومين ووضّح أن نصر المظلوم هو منعه عن الظلم ومن أشدّ أنواع الظلم إجبار الناس على رأي خاطئ ومن الظلم أيضا الدفاع عن رأي خاطئ وتبريره ومحاربة من يريدون تصحيح الرأي الخاطئ واتهامهم بأنهم محاربون للدين وأنهم يأكلون لحوما مسمومة !