السبت، 12 ديسمبر 2015

هلك المتنطعون

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((هلك المتنطّعون .. هلك المتنطّعون .. هلك المتنطّعون)) كرّرها ثلاثا !!

إن من أشهر ما يعرفه المسلمون عن دينهم أنه "سَمْحٌ" وأنه "يُسْرٌ" والله سبحانه وتعالى أثبت في كتابه الكريم:

((يريد الله بكم اليُسْر ولا يريد بكم العُسْر))

وهذا مُثبت بالعديد من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأشهر حديث في هذا الباب هو:

(إن هذا الدين يُسْر .. ولن يُشادّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه .. فسدّدوا وقاربوا)

وفي حديث آخر:

(بشّروا ولا تنفّروا .. ويسّروا ولا تعسّروا)

ومن رحمة الله على عباده المسلمين أنه أوجد لهم الأعذار وأوجد لهم الرُّخص والله سبحانه وتعالى يُحبّ أن تُؤتى رخصه !!

((ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج))

وفي الآية الأخرى: ((وما جعل عليكم في الدين من حرج))

والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخيّر قطّ بين أمرين إلا اختار أيسرهما "ما لم يكن إثما" بنص الحديث المروي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

هذا هو دين الرحمة .. هذا هو دين اليُسر .. هذا هو الدين السمح  !!

يقول الله عز وجل في محكم تنزيله: ((يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين))

ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها .. وحد حدودا فلا تعتدوها .. وحرم أشياء فلا تنتهكوها .. وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان .. فلا تبحثوا عنها)

وفي الواقعة الأخرى أن سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: (الحلال ما أحل الله في كتابه .. والحرام ما حرم الله في كتابه .. وما سكت عنه فهو مما عفا عنه)

وكان الصحابة رضوان الله عليهم ينهرون من يُكثر المسألة في حكم هذا وحكم هذا وحكم ذاك فينهرونه ويمنعونه

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: والذي لا إله إلا هو .. ما رأيت أحدا كان أشد على المتنطعين من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وما رأيت أحدا كان أشد عليهم من أبي بكر .. وإني لأرى عمر كان أشد خوفاً عليهم أو لهم !

ورُوي عنه رضي الله عنه أنه قال: عليكم بالعلم قبل أن يُقبض .. وقبضه أن يذهب بأصحابه .. عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه أو يفتقر إلى ما عنده .. إنكم ستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم .. فعليكم بالعلم .. وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع وإياكم والتعمق !

ومن التنطع أيضا الاهتمام بالفروع وإهمال الأصول كمن يقضي وقته يجادل في حكم الجهر بالبسملة في الصلاة وهو لا يُحسن إتمام الوضوء !

وتجده يجادل في مسألة كشف وجه المرأة المسلمة ويتغافل عن ظلم بعض الرجال للمرأة بأكل حقوقها في الميراث وعضلها واغتصاب راتبها منها ومنعها حقها في النفقة أو في رؤية أبنائها

وتجد آخر يجادل في أهمية صلاة الضحى وأجرها وهو يقصّر في عمله فيتأخر صباحا .. ويخرج مبكرا ظهرا .. وترى معاملات المراجعين مكوّمة أمامه متأخرة يدعون عليه أن عطّل مصالحهم !

الاقتداء بالسنة النبوية شيء جميل ومحمود ويؤجر المرء عليه بلا شك والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر عامل من ذكر أو أنثي ولكن

هنالك أولويات .. وهنالك ضروريات .. والرسول صلى الله عليه وسلم قال:

(إن منكم منفرين .. فأيكم ما صلى بالناس فليتجوّز .. فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة)

وقال صلى الله عليه وسلم في نفس المسألة:

(لا تبغضوا الله إلى عباده فيكون أحدهم إماماً فيطوّل على القوم الصلاة حتى يُبغض إليهم ما هم فيه)


انظر إلى النصيحة النبوية والتي تدل على بُعْد النظر ورحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين

التطويل الدائم في الصلاة أو في الخطبة أو في المحاضرات هو من الأمور التي تؤدي إلى الملل

والملل يؤدي إلى الهروب .. والهروب يؤدي إلى البعد عن دين الله عز وجل

كم من إمام تسبب بهروب المصلين من مسجده لمثل هذا السبب؟

وكم من منفر للمسلمين عن الإسلام بسبب تشدده وتنطّعه؟

صحيح أن الحياة الدنيا ليست دائمة وأن مردّنا إلى الله عز وجل .. ولكن الله عز وجل وضع لنا في هذه الحياة الدنيا زينة وأباح لنا أن نتمتع بزينة الحياة الدنيا مادامت لا تنطوي على معصية من تزوج وإنجاب وتجارة وأموال وما إلى ذلك

يقول خير البرية ينصح من أتاه خبرهم بأنهم يريدون أن يزهدوا في الدنيا فلا يفطرون ولا يتزوجون ولا ينامون: (أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له .. لكني أصوم وأفطر .. وأصلي وأرقد .. وأتزوج النساء .. فمن رغب عن سنتي فليس مني)

وحتى عبد الله بن عمرو بن العاص الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصيام وكان يريد أن يصوم كل يوم فنصحه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر فقال له إني أطيق أكثر من ذلك حتى وصل معه إلى أن يصوم يوما ويفطر يوما ولما كبر عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وعجز عن الالتزام بما ألزم نفسه به كان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وهذه أمثلة من الصحابة رضوان الله عليهم أنفسهم أنهم حاولوا أن يعطوا أكثر ما عندهم ولكن النصيحة النبوية كانت حاضرة دوما والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع

وأن تلزم نفسك بشيء أما الله عز وجل هو التزام عظيم .. فإما أن تكون متأكدا أنك قادر عليه وإما أن لا تلتزم به من الأساس فالله سبحانه وتعالى غني عن ذلك

ولنا في ذلك الرجل الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خمس صلوات في اليوم والليلة) ، فقال: هل علي غيرها؟ ، قال: (لا إلا أن تطوّع) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وصيام رمضان( قال: هل علي غيره؟ ، قال: (لا إلا أن تطوّع) وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة ، قال: هل علي غيرها ؟ ، قال: (لا إلا أن تطوّع) ، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق)

هذه هي خلاصة الإسلام .. فما زدت فمن عندك .. وكل ما عدا هذا هو أمور ثانوية لا تقدم ولا تؤخر في أساس دينك .. ولا تحرمك دخول الجنة وهذا وعد الله عز وجل وبشارة نبيه صلى الله عليه وسلم

وما تزيده من عندك ليس من حقك أن تجبر الناس عليه وترى أنهم "مفرّطون" وأنهم "جاهلون" وأنهم "مقصّرون" فهذا بينهم وبين الله عز وجل

إن بعض الناس قد استمرأ التشدد حتى أصبحوا لا يبتسمون في أوجه الناس !

يحسبون هذا زهدا وهو في الحقيقة مخالفة صريحة لما ورد عن خير البرية عليه الصلاة والسلام الذي لم يكن يُرى إلا متبسما !!

ولم يكن يغضب إلا في حدّ من حدود الله انتهك !

أما في بقية يومه فهو المبتسم البشوش الذي يمازح الصغير والكبير "بالحق"

فكونوا كقدوتنا الذي أرسله الله رحمة مهداة إلى البشرية وكما وصفه الله عز وجل في آواخر سورة التوبة:

((لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم))