السبت، 5 يوليو 2014

فَوَيْلٌ للمصلّين .. !!


إن اقتطاع الأدلة الشرعية هو أحد أكبر المصائب التي ابتُليت بها الأُمّة الإسلامية مِن بعض مَن استغلّوا عِلمهم الذي أنْعمَ الله عليهم به لكي يُجبروا (بطريقٍ غير مباشر) عوامّ الناس أن يكونوا على ما يعتقدون أنه الحق ولو سلكوا سُبُل التدليس في عملية الجذب إلى مسارهم أو التنفير من المسارات الأخرى التي يروْن أنها على الخطأ

من أشهر الأمثلة التي يعلمها عوامّ المسلمين عن أن اقتطاع الآيات عن سياقها قد يُغيّر معناها بالكُلّية هو قول الله عز وجل: ((فَوَيْلٌ للمصلين)) فكما هو معلومٌ للجميع أنك لو قرأت الآية مُفردةً لأصبح معناها أن الصلاةَ مُحرّمةٌ بالكُلّية ولا يجوز لأحد أن يصلّي أصلا ولكن الواقع أن الآية التي بعدها تفسّر المقصود ((الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون ويمنعون الماعون))

ولذلك فإن اقتطاع الآيات من سياقها سواء مما قبلها أو مما بعدها يؤدي في أحيان كثيرة إلى تغيّر المعنى كلّيا ويصبح غير المقصود بتاتا وهذا ما يفعله للأسف كثيرٌ ممّن يدّعون أنهم ينصحون الناس وأنهم لا يريدون إلا الإصلاح!

من أكثر الآيات التي استغلها هؤلاء قوله عز وجل في أوائل سورة النساء ((فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثُلاث ورُباع...))

فالآية كاملة هي الآية الثالثة من سورة النساء ((وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألاّ تعولوا)) والعدل بينهنّ ليس أمرا سهلا بل هو مستحيل بنص القرآن في نفس سورة النساء ((ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تُصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما)) وكما روَتْ عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله عز وجل: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك)) وكان يعني ميله القلبي إلى عائشة لأنه كان يحبها أكثر من باقي زوجاته وهذا أمرٌ ليس بيده ولكن السيدة عائشة كانت تقول في بداية الرواية: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بيننا فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك))

ومن استغل هذه الآية هم المؤيّدون لتعدد الزوجات , وأنا لستُ هنا لأقول أنني معارضٌ لتعدد الزوجات فما أحلّ الله عز وجل لا يحقّ لمخلوق أن يرى فيه رأيا آخر على الإطلاق ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا)) ولكن كما ذكرتُ مُسبقا فإن الله عز وجل قد بيّن أن العدل الكلي بين النساء مستحيل وحذر كل من يقدّم على التعديد من المَيْل إلى زوجة وتعليق أخرى والميل والتعليق ليس في الأمور الجنسية فقط وإنما في كل الأمور: المادية والعاطفية والتواجد في البيت والعناية بالأبناء وفي كل شيء بأكبر قدر ممكن العدل وهو ما لا يحققه الكثير من المعدّدين ولو بيّن الذين يروّجون للتعديد صعوبته بيانا واضحا لما أقدم عليه الكثير ممن يتزوجون الثانية والثالثة والرابعة ويحسبون أن الزوجة ينبغي أن تخضع كليا لرغبات الزوج دون أية حقوق لها سوى المسكن والملبس والأكل.

الحقوق الزوجية أكثر من ذلك فالله سبحانه وتعالى يقول: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) فالسكن والرحمة والمودة والمعاشرة كلها جزء لا يتجزّأ من الزواج لأن الإسلام إنما يدل المسلم على كل ما يعينه على حياته ودنياه وليس همّ الإسلام في الوطء فقط ولو أنه جزء لا يتجزّأ من الزواج كما هو معلوم للجميع.

ومن الآياتِ المشهورة أيضا والتي اقتطعت كليا من سياقها قوله عز وجل: ((وقرْن في بيوتكن ...)) فهذه الآية استغلها الكثيرون ممن يروْن عدم جواز خروج المرأة من بيتها لغير حاجة ضرورية وهو خلاف الواقع في الإسلام وخلاف كل منطق بشري سليم فطبيعة الإنسان كُرْه القيدِ والحبس ولا يُعقل أن الله عز وجل يريد من كل بنات آدم أم يجلس في بيوتهن منذ بلوغهن سن الرشد وحتى مماتهن.

إن الآية السابقة جزء من عدّة آيات نزلت في آخر حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم ضمن سورة الأحزاب وهي التي سُمّيت بعد ذلك بآياتِ التخيير حيث طلب الله عز وجل من نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يُخيّر النساء اللاتي كنّ زوجاته حين نزلت الآيات بين البقاء كزوجات للنبي صلى الله عليه وسلم وبين الطلاق منه لأن هذا كان معناه التخيير بين الدنيا والآخرة لأن ما كان سيترتب عليه حِمْلٌ عظيم وأجر عظيم ولكنه كان يتطلّب أيضا تضحيةً عظيمة فأنزل الله عز وجل قوله:
((يا أيها النبي قُلْ لأزواجك إن كُنتنّ تردْنَ الحياة الدنيا وزينتها فتعالَيْنَ أمتّعكُنّ وأسرّحكُنّ سراحا جميلا * وإن كُنتنّ تردْنَ اللهَ ورسوله والدار الآخرة فإنّ الله أعدّ للمُحسناتِ منكنّ أجرا عظيما * يا نساء النبي من يأتِ منكنّ بفاحشةٍ مبيّنةٍ يُضاعفْ لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنُتْ منكنّ لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرّتيْنِ وأعتدنا لها رزقا كريما * يا نساء النبي لستُنّ كأحدٍ من النساء إن اتّقيْتُنَّ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلْنَ قولا معروفا * وقرن في بيوتكنَّ ولا تبرّجنَ تبرّج الجاهلية الأولى وأقمْنَ الصلاة وآتينَ الزكاة وأطعْنَ الله ورسوله إنما يريد اللهُ ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا * واذكرنَ ما يُتلى في بيوتكنّ من آيات اللهِ والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا))

فلو لاحظنا أن الآيات السابقات كلّهن موجهاتٍ إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم وهذا واضحٌ لكل من يفهم اللغة العربية فهما صحيحا وقد احتج البعضُ بأن ما ينطبق على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ينطبق بالتبعيّة على نساء المؤمنين وهذا القول خاطئ من وجهة نظري وقد سبق وأن فصّلتهُ "هنا".

ومن الآيات التي اقتطعت أيضا قول الله عز وجل: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ...)) فهذه الآية التي استغلها المتملّقون للحُكّام عبر السنين ليُبرّروا أوامر الحُكّام حتى وإن كانت منافية لأمر الله عز وجل ومنافية لما جاء به المصطفى صلى الله عليه وينسى الغالبية من الناس بقيّة الآية الكريمة ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)) فلم يعد كثير من الناس يُدرك معنى بقيّة الآية لأنها غُيّبت عنهم فغاب معناها وغاب تطبيقُ حكمها فكُلّما اعترض إنسان على قرار صادرٍ من حاكم ظالم قام هؤلاء ليدافعوا وليبرروا وليسوّغوا ظُلم الظالمين.

وأنا هنا لا أتحدّث عن الخروج على الحكام ومقاتلتهم بالسيف فهذا ليس محل خلافٍ في أنه محرّم إلا في حالاتٍ نادرة جدا وكما قال عليه الصلاة والسلام لـ عبادة بن الصامت رضي الله عنه: ((اسمعْ وأطعْ في عسرك ويسرك، ومكرهك وأثرة عليك، وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك، إلا أن تكون معصية لله بواحا))

والأنصار رضوان الله عليهم عندما بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة كان من ضمن ما بايعوا عليه: (القيام في الله لا يخافون فيه لومة لائم) 

وتجدُ الناس تحكم عبر الزمان على كل من يعترض على الحكام بأنهم خارجون عن الجماعة وأنهم فُسّاقٌ وزنادقة وأحيانا خارجون من الملّة لمجرّد أنهم قالوا أن حاكمهم أخطأ أو ظلم وهذا ما جعل كثيرا من الحكّام عبر التاريخ يستغلون هذا الاعتقاد بطريق مباشر أو غير مباشر في تمرير ظلمهم على الناس واستغلال خوف الناس في اعتقادهم أن أي خروج على الحاكم هو خروج على الجماعة وبالتالي هو كفرٌ مبين!

ولكن الواقع أن على المسلم أن لا يسكت عن الحق وأن يشير إليه وهذا أمر واجبٌ على كل مسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه أوّل ما بويع بالخلافة بعد التحاق المصطفى صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى قد قال خطبة جميلة فيها ما يثبت مناصحة الحُكّام فقال رضي الله عنه في بداية خطبته: ((أما بعد أيها الناس، فإني قد وُلّيت عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني؛ وإن أسأتُ فقوِّموني؛ الصدق أمانة، والكذب خيانة ...)) وقال في نهايتها: ((... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)) وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان من جُملة ما قال في خطبته التي قال عندما بويع بالخلافة بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: ((...وأعينوني على أنفسكم بكفّها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم ...)) وكذلك قال حفيده عمر بن عبد العزيز عندما ولي الخلافة فقال من جُملة ما قال يوم بويع على الخلافة: ((...أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم))

وهنالك غير هذه من القصص التي وردت عن سيدنا عمر رضي الله عنه في قصة سلمان رضي الله عنه حين قال له سلمان: ((والله لا نسمع..)) وكذلك في قصة المرأة التي اعترضت على سيدنا عمر رضي الله عنه في مسألة وضع حد للمهور فقال رضي الله عنه جملته المشهورة ((أخطأ عمر وأصابت امرأة)) وكان رضي الله عنه لا يتحرّج من الاعتراف بأنه أخطأ فقال غير مرة ((كل الناس أفقه من عمر))

وهذه بعض من الأمثلة على هذا الموضوع، وأيّا ما تكون الآية التي تُنتزع من سياقها سواءً مما ذكرتُ هنا أو من بقيّة كتاب الله عز وجل وحتى أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم إن انتزعت من سياقها فإن الرسالة هنا أن يحذر الذين يحاولون أن يدلّسوا على عوامّ الناس لأن الكذب على الله عز وجل والكذب على نبيه صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب الجالبة لسخط الله عز وجل ونقمته سواء كان هذا في الدنيا أو في الآخرة.


ونسأل الله عز وجل أن يهدينا إلى الحق وأن يرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل ويرزقنا اجتنابه.